رحلة مع رهين المحبسين .. حكيم الشعراء وشاعر الحكماء هذا جناه أبي عليّ وما جنيتُ على أحدأبو العلاء المعريلم يأتِ عالمٌ من علماء اللغة منذ تدوينها بمثل ما أتى به أبو العلاء، فقد أحاط باللغة العربية إحاطة تامة، واستعمل كل ألفاظها في شعره ونثره، وأبدع فيهما كأحسن ما يكون، كما لم يجتمع لأحد جاء قبله أم بعده مثل ما اجتمع لأبي العلاء من اتقان العلم وسعة الثقافة وعمق المعرفة. إذ أنه قال الشعر وصنفه وهو ابن احدى عشرة سنة.
ذلك هو أبو العلاء الشاعر والأديب والفنان واللغوي البارع، ولكن ما هو نسبه، وفي أي عصر عاش ، وما هي شخصيته، وفلسفته، وما يقال عن إيمانه أو شعره. ذلك ما سنبحثه في دراستنا عنه قبل التعرض لديوانه..
ولادته:كان يوم السابع والعشرين من شهر ربيع الأول سنة 363 هـ وكانت الشمس تهوي إلى الطرف الآخر من السماء، وتجري فوق قطع الغيوم لتنحدر وراء الجبال فلم تعد تظهر للناظر إليها من مدينة معرة النعمان، وفي ذلك اليوم وكان الجمعة، كان هناك شخصٌ يهرع إلى عبد الله بن سليمان أبي العلاء التنوخي المعري ويزف إليه البشرى بولادة طفلٍ ذكر له، ففرح به وأسماه أحمد.
ولقد ولد في بيت كان فيه القضاة والأئمة، والعلماء، والأدباء، والحكماء، يقول ابن فضل الله العمري في كتابه مسالك الأبصار: "وأما بيته فساده لهم في الفضل رسوخ غير منسوخ، منهم قضاة الأمة، والفضلاء، والأئمة، والحكماء أصحاب العلوم الجمة، والأدباء الناطقون بالحكمة، والشعراء الذين اغتصبوا البحر درّه، والفلك نجمه، والخطباء أهل الورع والاثبات الذين أحيوا السنة، وأماتوا البدع، مما لا يتسع التأليف لاحصائهم"..
مسقط رأسه:ولد أحمد بن عبد الله بن سليمان أبو العلاء التنوخي المعري في معرة النعمان، وسميت بذلك نسبة إلى النعمان بن بشير الأنصاري، وكان والياً على حمص وقنسرين، إبان حكم معاوية وابنه يزيد، وافترس السبع ابناً للنعمان عندما كان يتصيد، فحزن عليه أيما حزن، وبنى له موضعاً عند قبره، وتكاثر البناء، فنسبت إليه، وكانت تحمل أولاً اسم "ذات القصور.. ويقال إنه كان لها سور حجري وعلى بابها حجر كتب عليه بخط غير عربي طلسما للعقارب فلا تدخلها أو تأوي إليها، وتهرب اذا ما أحضرت إليها، وكانت تكثر فيها أشجار التين والزيتون والفستق والعنب ووصفت بأنها أخصب بلاد الله وأكثرها أرزاقاً؛ ووراءها جبل لبنان.
قال الرضي الموسوي يصفها:
صيانة النفس اغْلتها وارخَصَها *** صيانةُ المالِ فانْظرْ حِكمةَ الباريغير أننا نرى أبا العلاء يقول غير ما أوردناه من كلام لبعض من زار المعرة، فهو لا يحس بتلك الخضرة، والأرض الطيبة الخصبة، والكروم التي تحيط بها، فيقول:
" وهذه جمل من صفة المعرة: هي ضد ما قاله الله عز وجل أنها مثل الجنة التي وعد المتقون، فيها أنهار من ماء غير آسن. اسمها طيرة، وعند الله ترجى الخيرة، والمورد بها محتبس، وظاهر بترابها في الصيف يبس. ليس بها ماء جار، ولا تغرس فيها غرائب الأشجار".
ترى لماذا كان يحسها أبو العلاء كذلك؟!..
حياته الأولى وفقدانه بصره:عاش أبو العلاء مع أبيه سنواته الأولى في طيب وهناء حتى كان عام 376 هـ. وله من العمر سنوات ثلاث فقط، فأصيب بالجدري التي ذهبت بعينه اليسرى. وغشى عينه اليمنى بياض، ولم يعد يرى من الألوان سوى الأحمر، وهو يذكر أنه أثناء مرضه ألبسوه ثوباً مصبوغاً بالعصفر، أما ما يذكره في نثره وشعره من الألوان؛ فليس إلا تقليداً لغيره واستعارة منه، أو ربما لا يزال متأثراً بتلك الآثار الباقية من تلك الألوان عندما كان صغيراً، ويقال إنه ذات مرة طلب من جماعة حضروا عنده أن يعدوا له الألوان؛ فعددوها جميعها، حتى قالوا: الأحمر، فقال: هذا هو ملكها، ونُسب ذلك إلى ذكائه المفرط؛ اذ أنه كان قد بلغ فقط السنة الرابعة وشهراً واحداً، حين ألبس ذلك الثوب الأحمر، وهذا على غير ما يقوله البعض من أنه ولد أعمى.
وفي سنته السادسة، أو أوائل السابعة ذهب بصره جملة وكان يحمد الله على حرمانه نعمة البصر، فلا يرى الحياة، وأشياءها المقيتة، فقد قال:
قالوا العمى منظر قبيح *** قلت بفقدانكم يهون
والله ما في الوجود شيء *** تأسى على فقده العيونوقد لا يكون قوله هذا إلا من باب التعزية للنفس كما يقول البعض في الوقت الذي كثر فيه حساده، وشهرته بدأت تجوب الآفاق، وسمعه مرة أبو الحسن الدلفي الحصيص الشاعر يقول: "أنا أحمد الله على العمى كما يحمده غيري على البصر"
علومهتلقى أبو العلاء علومه الأولى في المعرة، فتعلم العربية من أهل بلدته، وتعلم مبادئ النحو واللغة على يد أبيه، ثم رحل إلى حلب يطلب الاستزادة على يد محمد بن عبد الله بن سعد النحوي، ثم لم يلبث أن رحل إلى بغداد، وبقي فيها ما يقرب السنة وسبعة أشهر، يطّلع على ما وجد في خزائن بغداد من الكتب، والآثار الأدبية، حتى أحصى اللغة العربية واستعملها، كما لم يحصلها أو يستعملها أحد قبله أو بعده، وتعلم الحديث الشريف من أبيه وجده سليمان بن محمد، وأخيه أبي المجد، وجدته أم سلمة، وقد سمعه أيضاً من أبي زكريا يحيى التنوخي، حتى صار يلزم منزله ليتسنى له سماعه.
ذكاء أبي العلاءإن التاريخ يعرفنا بالكثير الكثير الذين نبغوا في مختلف الفنون رغم فقدانهم نعمة البصر، ولم تكن تلك العاهة يوماً لتحول دون النبوغ، بل إنها كثيراً ما تقوي من فاعلية الحواس الأخرى كاللمس مثلا، ويعلل ذلك بأنه كثيراً ما يحول فقد البصر دون شرود الذهن، فيضطر الشخص على حصر انتباهه فيما يسمعه أو يلمسه؛ ولذا ليس ما يدعو إلى الشك في قول أبي العلاء بأنه يحمد الله على فقدانه البصر ويعتبره نعمة.
ومما يروى عن ذكائه وحفظه أن جاراً له سماناً كان بينه وبين رجل من أهل المعرة معاملة، فجاءه ذلك الرجل، ودفع إليه السمان رقاعاً كتبها إليه يستدعي فيها حوائج له، وكان أبو العلاء في غرفة مشرفة عليهما، فسمع أبو العلاء محاسبة السمان له، وأعاد الرجل الرقاع إلى السمان، ومضى على ذلك أيام، فسمع أبو العلاء ذلك السمان وهو يتأوه ويتململ، فسأله عن حاله فقال: كنت حاسبت فلاناً برقاع كانت له عندي، وقد عدمتها، ولا يحضرني حسابه؛ فقال لا عليك، تعال إليّ، فأنا أحفظ حسابكما، وجعل يملي عليه معاملته وهو يكتبها إلى أن فرغ وقام، فلم يمض إلا أيام يسيرة حتى وجد السمان الرقاع وقد جذبتها الفأر إلى زاوية في الحانوت، فقابل بها ما أملاه أبو العلاء فلم يخطئ بحرف واحد.
وكان صغيراً عندما حضر إليه جماعة من أكابر حلب الذين سمعوا بفرط ذكائه، وكان يلعب مع الصبيان، فقال لهم: هل لكم في المقافاة بالشعر؟ .. فقالوا: نعم. فجعل كل واحد منهم ينشد بيتاً وهو ينشد على قافيته، حتى فرغ حفظهم وتغلب عليهم .
وأرسل أحد أمراء حلب برسول إليه يطلب كتاب "الجمهرة" الذي قيل إن اللغة التي ينقلها أبو العلاء هي منه، لكنه لم يرسله إلى الأمير حتى قرئت بكاملها عليه وقال للرسول: ما قصدت بتعويقك إلا أن أعيدها على خاطري، خوفاً من أن يكون قد ابتعد منها شيء عن فكري. فعاد الرسول وأخبر أميره بذلك فقال. من يكون هذا حاله، لا يجوز أن يؤخذ منه هذا الكتاب وأمر برده إليه. ويحكى أنه شبه حبة اللوبياء بالكلية فور لمسه إياها، دون أن يدري ما هي، وهناك ثمة حادثة أخرى غريبة تدلنا على ذكائه الذي لم يكن عادياً، إذ أنه قبل دهوله بغداد أثناء رحيله إليها، وكان راكباً على جمل، مرّ بشجرة ، فطُلب إليه أن يطأطئ رأسه لوجود شجرة، ففعل، وعندما عاد إلى المعرة كانت الشجرة قد قطعت، لكنه طأطأ رأسه في ذات المكان، وعندما سئل عن السبب، قال: ها هنا شجرة.
وعندما رحل إلى بغداد وطلب أن تعرض عليه الكتب التي في خزائن بغداد، فأدخل إليها، وجعل لا "يقرأ عليه كتاب" إلا حفظ جميع ما يقرأ عليه، وقيل له: بم بلغت هذه الرتبة من العلم؟.. فقال: ما سمعت شيئاً إلا حفظته، وما حفظت شيئاً فأنسيته. ولم يكن ليقتصر حفظه على ما يسمعه بالعربية، بل كان يحفظ ما يقال أمامه أو يتلى عليه بأية لغة كانت؛ فقد تحدث مرة تلميذه أبو زكريا التبريزي مع شخص من اذربيجان بلسانهم، فأعاد أبو العلاء بعد فترة جميع ما قالاه بذلك اللسان، وقد قال أحد مؤرخي أبي العلاء: كنت أسمع من أخبار أبي العلاء وما أوتيه من البسطة في علم اللسان ما يكثر عجبي منه فلما وصلت المعرة قاصداً الديار المصرية لم أقدّم شيئاً على لقائه، فحضرت إليه ومعي أخي، وكنت بصدد أشغال يحتاج إليها المسافر فحدثت أخي عنها باللسان الفارسي وأرشدته إلى ما يعمله فيها، ثم غدوت إلى مذاكرة أبي العلاء، فتجاذبنا الحديث إلى أن ذكرت ما وصف به من سرعة الحفظ وسألته أن يريني من ذلك ما أحكيه عنه، فقال خذ كتاباً ليس بغريب عنك إن حفظته؛ قال: قد دار بينك وبين أخيك كلام بالفارسية، إن شئت أعدته عليه، قلت: أعده؛ فأعاده وما أخلّ والله منه بحرف؛ ولم يكن يعرف اللغة الفارسية..
وكان فوق ذلك كله يلعب الشطرنج والنرد..
فهل من الغريب بعد هذا أن نراه يحمد الله على العمى ويعتبره نعمة؟!